فصل: تفسير الآيات رقم (139- 141)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏139- 141‏]‏

‏{‏وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏139‏)‏ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏140‏)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏

لا تهنوا‏:‏ لاتضعفوا‏.‏ لا تحزنوا‏:‏ لا تتألموا‏.‏ الحزن ألم يعرض للنفس اذا فقدت ما تحب‏.‏ القرح‏:‏ الجرح، وألم الجرح‏.‏ نداولها‏:‏ نصرفها، ونعاقبها فنجعل الغلبة لهؤلاء تارة ولأولئك أخرى‏.‏ وليمحص‏:‏ ليطهر‏.‏ وأصل التمحيص تخليص الشيء مما فيه من عيب‏.‏ يمحق الكافرين‏:‏ يُنقصهم‏.‏

ولا تضعفوا عن الجهاد في سبيل الله بسبب ما نالكم من القتل والجروح والفشل يوم أُحد، ولا تحزنوا على ما فقدتم من الشهداء في ذلك اليوم‏.‏ كيف يلحقكم الوهن والحزن، وانتم الغالبون بتأييد الله، جزاء ايمانكم، وحفاظاً للحق الذي تدافعون عن‏!‏‏؟‏ لقد مضت سُنة الله أن يجعل العاقبة للمتقين‏.‏

واني كن قد لحقكم يوم أُحدٍ قتل او جرح، فقد أصاب خصومكم مثلُه‏.‏ لقد أوقعتم بهم يوم بدر، والأيام دُولة بين الناس‏.‏ هذه سنة الله في خلقه، يكون النصر لهؤلاء أحياناً ولأولئك أخرى، ولكن الغلبة النهايئة دائما لمن اتبع الحق‏.‏ ما هو الا اختبار للمؤمنين ليعلم الله الثابتين على الإيمان، وليكرم أناساً بالاستشهاد‏.‏ كذلك ليخلّص الله أحباءه المؤمنين من الذنوب، ويطهرهم من مرضى القلوب وضعفاء الإيمان، فيغدون صلاباً على أيديهم يُستأصلوا الكفر كله‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم «قرح» بضم القاف، والباقون بفتح القاف‏.‏ وهما لغتان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ‏(‏143‏)‏‏}‏

الجهاد‏:‏ احتمال المشقة ومكافحة الشدائد‏.‏ ويكون بالقتال وبذلِ المال في سبيل الله، كما يكون بمجاهدة النفس لشهواتها أو لدفع الباطل ونصرة الحق‏.‏

لا يزال الحديث موجّهاً الى من شهد معركة أُحد من المؤمنين‏.‏ والقرآن يخاطبهم في الآية بصورة السؤال‏:‏ لا تظنوا أيها المؤمنون أنكم تدخلون الجنة دون ان يتبين منكم المجاهدون الصابرون الذين تُطهّرهم المحن والشدائد‏.‏ واعلموا ان طريق الجنة محفوف بالمكاره، زادُه الصبر على مشاق الطريق، فتحمّلوها‏.‏

هنا يبين لنا سبحانه وتعالى ان طريق السعادة في الآخرة هو الصبر والجهاد في سبيل الله‏.‏ كما أن طريقها في الدنيا هو اتباع الحق والتزام الإنصاف والتزام الإنصاف والعدل بين الناس‏.‏ فسُنة الله واحدة لا تتبدل‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏

وهذا أيضاً خطاب لمن شهد وقعة أُحد من المسلمين، فقد كان كثيرٌ من الصحابة الذين لم يشهدوا معركة بدر يلحّون في الخروج الى أحد حيث عسكر مشركو قريش، ليكون لهم يومٌ كيوم بدر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لما أخبرهم الله تعالى على لسان نبيه بما فعل لشهداء بدر من الكرامة، رغبوا في الشهادة، فتمَّنوا قتالاً يستشهدون فيه‏.‏‏.‏ فنزلتْ آية‏:‏ لقد كنتم‏.‏‏.‏‏.‏ تتمنون الموت قبل ان تلاقوا القوم، فها أنتم أولاء ترون ما كنتم تتمنّونه وتنظرون اليه، فما بالكم دهشتم عندما وقع الموت فيكم، وما بالكم تحزنون وتضعفون‏!‏

وفي ذلك اليوم ثبت جماعة من الصحابة مع الرسول ‏(‏وكانوا نحو ثلاثين رجلا‏)‏ وذبّوا عنه الى ان انتهت المعركة، فيما تزعزع كثير منهم وضفعوا‏.‏ وحين ارتفعت الصيحة ان محمداً قد قُتل كان لها وقعها الشديد على المسلمين، حتى إن الكثيرين منهم فروا مصعِّدين في الجبل، والرسول عليه السلام يناديهم وهم مولّون، حتى رجعوا اليه وثبّت الله قلوبهم‏.‏ وها ينبّهنا القرآ الكريم الى ان الرسول بشرٌ يمكن ان يموت، لكن رسالته تظل باقية الى الأبد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 145‏]‏

‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ ‏(‏145‏)‏‏}‏

في غمرة المعركة وساعة المحنة، وحيث انقلبت الكفة ودارت الدائرة على المسلمين قُتل مصعب بن عمير‏.‏ وكان مصعب يشبه النّبي شبهاً تاما، فنادى قاتلُه‏:‏ قتلتُ محمداً‏.‏ في تلك الساعة الحرجة قال أنس بن النضر ‏(‏وهو عم أنس من مالك‏)‏‏:‏ يا قوم، ان كان محمد قد قُتل فان رب محمد حيّ لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول‏!‏ قاتِلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه‏.‏ ثم شد سيفه وقاتل حتى قُتل‏.‏

فالله سبحانه وتعالى هنا يخاطب هؤلاء بقوله‏:‏ ليس محمد إلا رسول قد مضت قبله الرسل، فماتوا وقُتل بعضهم ولم يُكتب لأحد منهم الخلود‏.‏ وسيموت محمد كما ماتوا، أفإن مات أو قُتل رجعتم على اعقابكم الى الكفر‏!‏ ان من يرجع الى الكفر في تلك الحال لن يضر الله شيئاً، وانما يضر نفسه، بتعريضها للعاذب‏.‏

ويرشدنا الله في هذه الآية الى ان نتّبع الرسول ونسترشد برسالته وهدية ودينه، اما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم‏.‏ وما يعرض له من حياة وموت فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا لخضوعنا نحن‏.‏ ذلك ان محمداً بشر مثلنا خاضع لسنن الله‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

فالموت والحياة بيد الله، ولا يمكن ان تموت نفس إلا بإذن الله، وفي أجل معين يعلمه الله، لا يتقدم ولا يتأخر‏.‏ لذلك، قد يموت الصغير ويبقى الكبير، ويفتك المرض بالشابّ القوى فيما يعيش المريض العليل‏.‏ وقد يسلم المقدام في الحرب ويُقتل الجبان‏.‏ ومن ثم لا عذر للمرء هنا في الوهن والضعف‏.‏

وفي الآية تحريض على الجهاد، والذي تركناه اليوم لليهود، فيهم يجاهدون عن وطنهم المزعوم ونحن قاعدون مستسلمون لنكبة وطننا الحق، نريد من الأمم أن تحل قضيّتنا‏.‏ ألا بئس ما نحن فيه‏!‏ ما دام الأجل محتوماً، ومؤقتا بميقات، فلماذا هذا الجُبن والخور‏!‏

‏{‏وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وم قصَد بعمله حظَّ الدنيا أعطاه الله ثوابها، ومن قصد الآخرة اعطاه الله حظاً من ثوابها وأجزله له، وسيجزي الله الشاكرين لنعمائه، وهم الذين أطاعوه فيما أمرهم به وجاهدوا وصبروا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقد كرر تعالى‏:‏ قوله‏:‏ ‏{‏وَسَيَجْزِي الله الشاكرين‏}‏ حتى يعلم كل انسان ان الله كريم لا يُضيع أجر من أحسن عملا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏146- 148‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ‏(‏146‏)‏ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏147‏)‏ فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

ربيون‏:‏ مفرده ربّيّ‏.‏ الجماعات الكثيرة، وله معنى آخر هو الربانيون، اي العلماء الأتقياء‏.‏ هنوا‏:‏ وضعفوا‏.‏ استكانوا‏:‏ خضعوا للعدو‏.‏ الاسراف‏:‏ مجاوزة الحد في كل شيء‏.‏

ما أكثر الأنبياء الذين قاتل معهم جماعات ممن آمنوا بهم فما خافوا ولا ضعفوا ولا خضعوا، ولا ولّوا الأدبار منهزمين، بل ثبتوا وصبروا على ما أصابهم في سبيل الله، والله يحب الصابرين‏.‏

فعليكم يا أصحاب محمد ان تعتبروا بحال أولئك الرَّبِّيين وتصبروا كما صبروا‏.‏ ولذلك طُلب الكيم ان تعرفوا عاقبة من سبقكم من الامم، وتقتدوا بعمل الصادقين منهم، وتقولوا مثل قولهم عند اشتداد الحرب ونزول الكوارث‏.‏ ذلك انهم مع ثباتهم وصبرهم ضرعوا الى الله بالدعاء قائلين‏:‏ ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وتجاوْز عما يكون منّا من إسراف في أعمالنا، وثبِّتنا في مواطن الحرب، ربّنا وانصرنا على أعداء دينك الذين جحدوا ألوهيتك‏.‏

وفي هذا اشارة الى ان الذنوب والإسراف في الأمور من عوامل الخذلان، فيما الطاعة والثبات والاستقامة من أسباب النصر والفلاح‏.‏

اذ ذاك لبّى الله طلبهم بقوله‏:‏ فآتاهم الله ثواب الدنيا، بالنصر على الأعداء، والسيادة في الأرض، والكرامة في الحياة، والذِّكر الحسن بين الناس؛ وثوابَ الآخرة اذ فازوا برضوان الله ورحمته‏.‏

والله تعالى يتلو على نبيّه هذه الآيات ليعلّمنا الاقتداء بالصالحين من الأمم السابقة، ويؤدبنا بأدب المؤمنين مع ربهم، ويُفهمنا أننا اذا أخلصنا حقاً وثبتنا على مبادئنا ثم طلبنا منه النصر فإنه يجيبنا وينصرنا بكرمه وفضله‏.‏

قارءات‏:‏

قرأ ابن كثير‏:‏ «كأين» بدون تشديد، والباقون «كأين» بتشديد الياء‏.‏ والمعنى واحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 151‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ‏(‏150‏)‏ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ ‏(‏151‏)‏‏}‏

يردوكم على اعقابكم‏:‏ يرجعوكم الى الكفر‏.‏ المولى‏:‏ الناصر والمعين‏.‏ السلطان‏:‏ الحجة‏.‏ المثوى‏:‏ المأوى، ومقر الانساان‏.‏

لا يزال الحديث في معركة أحد، وما حدث يومذاك من بلبلة في الأفكار وإرجاف من المشركين والمنافقين واليهود‏.‏ فقد انتهزوا جميعاً ما أصاب المسلمين من الهزيمة وأخذوا يثبطون عزائهم، ويخّوِفونهم عاقبة السير مع محمد، ويصورون لهم مخاوف الحرب ضد مشركي قريش وحلفائهم‏.‏ ونحن نعرف ان نجو الهزيمة لهو أ صلح الأجواء لبلبلة النفوس، واشاعة عدم الثقة في القيادة، وتزيين الانسحاب من المعركة‏.‏ لذلك نجده تعالى بعد ان رغّب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء الصادقين المخلصين، ينهاهم في الآية نفسها عن متابعة الكفار والمنافقين‏.‏

‏{‏يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ إن تطيعوا أعداء الله الذين أرجفوا يوم أُحد أن محمداً قد قتل، وانه لو كان رسولاً حقا لما هُزم، فإنهم سيطلبون اليكم ان ترجعوا الى دينكم الذي كنتم عليه، وبذلك تخسرون الدينا والآخرة‏.‏ وأيّ خسارةأشد من الارتداد عن الايمان الى الكفرِ‏!‏ اما اذا حدثتم أنفسكم بأنه قد يترتب على الميل اليهم من طرفكم قدرٌ من الحماية والنصر فاعلَموا ان ذلك وهمٌ خادع ‏(‏وهذا ما يفعله بعض حكام المسلمين مع اميركا في الوقت الحاضر‏)‏‏.‏ ان الله مولاكم، وهو ناصركم ومعين لكم وحاميكم‏.‏‏.‏ فلا تخشوهم، إن الله أعظم الناصرين‏.‏

ولا يضعْفكم ما أصابكم من خذلان يوم أحد، فنحن سنلقي الرعب في قلوب أعدائكم، جزاءً لهم على إشركاهم بالله في العبادة‏.‏ وسيكون مقرهم النار، وبئس مقام الظالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

تحُسونهم‏:‏ تستأصلونهم بالقتل‏.‏ فشلتم‏:‏ ضعفتم‏.‏ ليبتليكم‏:‏ ليختبركم‏.‏

في هذه الآية الكريمة والتي بعدها تصوير للمعركة، وعرض كامل لمشهدها، ولتداول النصر والهزيمة فيها، ثم ماتبعها من فرار‏.‏ ومع ذلك التصوير توجهات قرآنية، وتربية وتعليم بأسلوب قرآني حكيم‏.‏

«‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏‏.‏ ما زال الكلام والخطاب مع الأصحاب الذين كانوا في أُحد‏.‏‏.‏ وكان ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ قد وعدهم النصر يومئذ ان امتثلوا أمره‏.‏ وقد وفى الله لهم بما قاله على لسان نبيه، ذلك ان الرسول ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ أقام الرماة عند الجبل صيانة لمؤخرة المسلمين، وأوصاهم ان لا يبرحوا مكانهم، حتى ولو رأوا العدو تتخطفه الطير، ووعدهم النصر بهذا الشرط‏.‏ كان الرماة خمسين رجلاً‏.‏

ولما ابتدأت المعركة شرع الرماة يرشقون المشركين، وقية الأصحاب يضربونهم بالسيوف، وقتلوهم قتلاً ذريعاً، حتى انهزوا، وهذا معنى ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ‏}‏، أي تقتلونهم بأمر الله‏.‏ وفي تفسير ابن جرير الطبري والمراغي وغيرهما ان طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين المعروف بكبش الكتيبة قام فقال‏:‏ يا معشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون ان الله يعجّلنا بسيوفكم الى النار، ويعجلكم بسيوفنا الى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي الى الجنة، أو يعجلني بسيفه الى النار‏؟‏‏.‏ فقام اليه علي بن أبي طالب ‏(‏ع‏)‏ وضربه فقطع رِجله‏.‏ وسقط، فانكشفت عورته، فقال طلحة لعلي‏:‏ انشدك الله والرحم يا ابن عم‏.‏‏.‏ فتركه على ‏(‏ع‏)‏ وكبّر رسول الله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏ وقال لعلي أصحابُه‏:‏ ما منعك أن تجهز عليه‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ناشدني الله والرحم‏.‏‏.‏ هذا هو عليٌّ في خلقه، يفيض قلبه بالحنان والرحمة، حتى على أعدى اعدائه الذي برز له شاهراً السيف في وجهه مصمماً على قتاله وقتله‏.‏

‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏‏.‏ بعد أن ولى المشركون الدبر وكانوا ثلاثة آلاف مشرك امتلأ الوادي بما خلفوه من الغنائم‏.‏ وحين رآها الرماة، وإخوانهم المسلمون ينتهبونها دونهم عصَف بهم ريح الطمع، واختلفوا فيما بينهم، وقال بعضهم‏:‏ ما بقاؤنا هنا‏؟‏ وتجاهلوا وصية النبي وتشديده عليهم بالبقاء‏.‏ فقال لهم أميرهم عبدالله بن جبير‏:‏ امكثوا ولا تخالفوا أمر الرسول ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏.‏‏.‏ ولكن أكثرهم غادروا مواقعهم هابطين الى انتهاب الأسلاب والأموال، وتركوا أميرهم عبدالله في نفر دون لعشرة، والى هذا التنازعه والعصيان يشير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ‏}‏‏.‏ أما قوله‏:‏ ‏{‏مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ فيشير الى انهزام المشركين وغنائمهم‏.‏

وكان خالد بن الوليد يحارب النبي ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ مع أبي سفيان، وحين رأى مؤخرة المسلمين مكشوفة بعد أن أخلاها الرماة اغتنم الفرصة، وانقضّ مع جماعة من المشركين على البقية الباقية من الرماة، وقاتل هؤلاء بشجاعة وحرارة، حتى استشهدوا جميعاً، وخلا ظهر المسلمين، ورجع المشركون الى الميدان، وأحاطوا بالمسلمين من الخلف والأمام، وأكثروا فيهم القتل والجراح، ودارت الدائرة عليهم بعد ان كانت لهم‏.‏‏.‏

وهذه النتيجة الحتيمة للتنازع والتخاصم‏.‏

‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏‏.‏ وهم الرماة الذين تركوا مقاعدهم طمعاً بالغنيمة‏.‏ ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة‏}‏‏.‏ وهم الذين ثبتوا مكانهم مع أميرهم عبدالله بن جبير حتى نالوا الشهادة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏‏.‏ أي ردكم عن الكفار بعد أن نصركم عليم بسبب تنازعكم وعصيانكم‏.‏ ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏‏.‏ أي عاملكم معلامة من يمتحنكم ليظهر ثباتكم على الايمان، وصبركم على الشدائد، ويميز بين المخلصين والمنافقين‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين‏}‏‏.‏ وكثيراً ما يخطئ الإنسان عن طيش، ثم يؤوب الى رشده، فيعفوا الله عما سلف منه، أما من عاد فينتقم الله منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

اذكروا ايها المؤمنون حالكم في تلك اللحظات الرهيبة حين ذهبتم منهزمين لا تلتفتون لأحد من شدة الهرب، والرسول يناديكم ويقول‏:‏ هلم اليّ عباد الله، أنا رسول الله، من يَكُرَّ فله الجنة‏.‏‏.‏ وأنتم لا تسمعون لا تنظرون‏.‏ ولقد جازاكم الله غمّاً متصلاً بغمٍّ من الإرجاف بقتل رسول الله بعد الجرح، والقتلِ الذيب حصل فيكم اذ قُتل منكم سبعون رجلا، وظَفَرِ المشركين حتى صرتم من الدهش يضرب بعضكم بعضا‏.‏ ولقد فاتتكم الغنيمة التي طمعتم بها، لكي لا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة ما اصابكم من الهزيمة، الله خبير بما تعلمون يعلم مقاصدكم وقادر على مجازاتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

يغشى‏:‏ يغطي‏.‏ برز‏:‏ خرج‏.‏ الى مضاجعهم‏:‏ الى مصارعهم وقبورهم‏.‏ ذات الصدور‏:‏ السرائر‏.‏

بعد انت انتهت المعركة ورجع بعض من انهزم من المسلمين ويتجمّعوا حول الرسول الكريم وقف أبو سفيان وصاح‏:‏ أُعلُ هُبَل، يوم أُحد بيوم بدر، لنا العزّى ولا عُزّى لكم‏.‏ فقال رسول الله لعُمر‏:‏ قل‏:‏ الله أعلى وأجل، الله مولانا ولا مولى لكم‏.‏ فقال ابو سفيان‏:‏ فيكم محمد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال لقد حدثتْ مُثْلَةٌ لم آمر بها ولم تسؤني، ‏(‏يعني بذلك ما حدث من التمثيل بجثّة حمزة وغيرها من قتلى المسلمين‏)‏ ثم قال‏:‏ الموعد بيننا بدرٌ في العام القابل‏.‏ فخاف المسلمون ان يذهب المشركون الى المدينة‏.‏ وفي تلك اللحظة بعث الله النعاس على طائفة المؤمينن الصادقين في إيمانهم تطميناً لقلوبهم، وفي النوم راحة كبرى للأعصاب المرهقة وقت الشدائد‏.‏

قال ابو طلحة‏:‏ غشينا النعاسُ يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه‏.‏

ورفعتُ رأسي فجعلت أَنظر ما منهم يومئذ الا يميد تحت حَجَفته من النعاس‏.‏ وذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً‏}‏‏.‏

والحجفة‏:‏ الترس من الجلد‏.‏

هذه احدى طائفتي المسلمين الذين قاتلوا يوم أُحد‏.‏ أما طائفة الايمان المزعزع فقد أذلهم الخوفُ، نولم يكن لهم همٌّ الا انفسهم‏.‏ وذلك لأنهم كانوا مكذِّبيه بالرسول في قلوبهم، فظنوا بالله الظنون الباطلة وأخذوا يوقولن مستنكرين‏:‏ هل لنا من النصر والفتح نصيب‏؟‏‏.‏ لهؤلاء قل يا محمد‏:‏ الأمر كله لله في النصر والهزيمة‏.‏ وحتى حين يسألونك فإنهم في الواقع يخفون في أنفسهم ما لا يستطيعون اعلانه لك، فهم يُظهرون أنهم يسألون مسترشدين طالبين النصر، لكنهم يبطِنون الإنكار والتكذيب‏.‏ فلسان حالهم يقول‏:‏ لو كان أمر النصر بيد اله محمد كما ادعى محمد لما غُلبنا، ولما قُتل من قُتل من أصحابه في هذه المعركة‏!‏‏.‏

قل لهم يا محمد‏:‏ لو كنتم في منازلكم وفيكم من كُتِبض عليه القتل الخرجوا الى مصارعهم فقُتلوا‏.‏ اما الهزيمة فقد جازانا بها للهن ليمتحن ما في صدورنا من الصدق والإخلاص أو عدمه، ويمحصّ ما في قلوبنا من وساوس الشيطان، والله عليم بذات الصدور‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي «تغشى» بالتاء، والباقون «يغشى» بالياء‏.‏ وقرأ أبو عمرو ويعقوب «قل ان الأمر كلُّه» برفع اللام‏.‏ والباقون بنصبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

الجمعان‏:‏ جمع المؤمنين وجمع المشركين‏.‏ استزلهم الشيطان‏:‏ جرهم الى الخطأ‏.‏

ان الذين انهزموا منكم يا معشر المسلمين يوم أحد انما جرّهم الشيطان الى الزلل والخطأ، فعصَوا أمر الرسول وبارحوا المكان الذي أوقفهم فيه على الجبل‏.‏ لقد رأوا النصر للمسلمين في أول المعركة فهبطوا الى السهل طمعاً في الغنيمة‏.‏ عند ذلك هاجمهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وقتل من بقي من الرماة وأحدث الخلل في صفوف المسلمين‏.‏ ولقد فر أكثر المقاتلين، ولم يبق مع النبي الا ثلاثة عشر رجلاً منه خمسة من المهاجرين هم‏:‏ أبو بكر وعلى وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، وثمانية من الأنصار‏.‏ وقد انهزم بعضهم ولم يعند الا بعد ثلاثة أيام‏.‏

من هذا يتبين ان عملاً بسيطا لا يقدّره الانسان قد يجر الى نبكة كبرى، ويكون بعلمه هذا قد قدّم أعظم مساعدة لعدوه‏.‏ وهذا ما نحن فيه اليوم، فاننا بتفرقنا ومعادتنا لبعضنا البعض، اما نقدم اعظم خدمة لليهود وحلفائهم، منّا ومن غيرنا‏.‏

وفي الآية تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئةَ فتفقد ثقتها في قوتها، ويختلّ توازنها، فَتَبِيتُ عرضةً للوساوس والهواجس‏.‏ وعندئذ يجد الشيطان طريقه الى هذه النفس فيقودها الى الزلل والخطأ، وتحل بها النكبة والهزيمة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

ولكن الله ادرك أصحاب أُحد برحمته، فلم يدع الشيطان يتسلط عليهم، بل عفا عنهم، ثم أخبرهم بأنه غفور حليم‏.‏ ونحن نسأل الله تعالى ان يردّنا الى طريقه المستقيم، ويدركنا برحمته فيوحّد كلمتنا ويعيد الينا ثقتنا بأنفنسان، لننظم صفوفنا ونسترد ما اغتُصب من بلادنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156- 158‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏ وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

المراد بالذين كفروا هنا‏:‏ المنافقون، عبدالله بن أُبي وأصحابه‏.‏ ضربوا في الأرض‏:‏ سافروا فيها للتجارة وغيرها‏.‏ غزى‏:‏ جمع غاز، محابرون، مجاهدون‏.‏

يا أيها المؤمنون لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين قالوا في شأن اخوانهم حين سافروا للتجارة والكسب فماتوا، او كانوا غزاة في وطنهم او في بلاد اخرى فقُتلوا‏:‏ لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا ما قتلوا، فقد جعل الله ذلك القول والظن حسرة في قلوبهم‏.‏ ان الله هو الذي يحي ويميت، وليس للإقامة والسفر مدخل في ذلك‏.‏ والله مطّلع على ما تعملون، بصير بما تكفرون فيه، لا يخفى عليه شيء مما تكتمون في أنفسكم من وساوس الشيطان‏.‏

ثم بشّر من قُتل او مات في سبيل الله بحسن المآل ‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ‏.‏‏.‏ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ أي إن مغفرة الله ورحمته لمن يموت أو يُقتل في سبيل الله خيرٌ لكم من جميع ما يتمتع به الكفار من المال والمتاع في هذه الدار الفانية‏.‏ والحقَّ أقول‏:‏ لو أننا آمنا إيماناً صادقاً لما خفنا من الموت، ولحاربنا اليهود بعزم وصدق وخلّصنا بلادنا من براثنهم‏.‏

ثم حثّنا سبحانه على العمل في سبيله، لأن المرجع اليه فقال‏:‏

‏{‏وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏‏.‏ فبأي سبب كان موتكم فإنكم راجعون الى الله لا إلى غيره، فيجزي كلاً منكم بما يستحق‏.‏ فآثِروا ما يقرّبكم إليه من العمل الطيب والجهاد في سبيله، ولا تركنوا الى الدنيا ولذاتها الزائلة، أيها المؤمنون‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «والله يعلمون» بالياء‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي «متم» بكسر الميم‏.‏ وقرأ غير حفص «خير مما تجعمون» بالتاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

لنت لهم‏:‏ ترفّقت بهم‏.‏ الفظ‏:‏ الشرس الأخلاق، الجافي العشرة‏.‏ القلب الغليظ‏:‏ القاسي الذي لا يتأثر باللطف والرقة‏.‏ انفض‏:‏ تفرق‏:‏ المشاورة‏:‏ أخذ آراء الذين حولك من العقلاء وذوي الرأي‏.‏ التوكل‏:‏ تفويض الأمر الى الله، للثقة بحسن تدبيره، مع أخذ الأهبة واستكمال العدة‏.‏

بعد ان أرشد الله المؤمنين من الآيات المتقدمة الى ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، اتجه في الخطاب هنا الى الرسول الكريم بهذا التعبير الدقيق اللبق، والمدح العظيم‏.‏ فهو يريد ان يلطّف الجو بعد معركة أحد، ويخفف مما في نفس الرسول على القوةم الذين كنوا سبباً في تلك النكبة‏.‏

ويتوجه سبحانه إلى الرسول بهذه الآية والتي بعدها يطيّب قبله، والى المسلمين يشعرهم بنعمة الله عليهم به، ويذكّرهم رحمة الله الممثلة في خُلقه الكريم‏.‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ من رحمة الله عليك ان عاملتَ أصحابك بعد رجوعهم باللين والرفق، وهذا شيء خصّك الله به، فقد حباك بآداب القرآن العالية وحِكمه السامية، فهانت عليك المصائب‏.‏ هذا مع انَّ كثيرا من أصحابك قد استحقوا اللوم والتعنيف، اذ تركوك وقت اشتداد الهول فيما الحرب قائمة على أشدها‏.‏

‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ ولو كنت يا محمد رجلاً خشناً جافيا في معاملتهم لتفرقوا عنك، ونفرت قلوبهم منك، فلم تتم هدايتُهم وارشادهم الى الصراط المستقيم‏.‏

هكذا يجب ان تكون أخلاق الزعيم والقائد الحاكم، فان الناس في حاجة الى رعاية فائقة وقلب رحيم، وحلِم لا يضيق بجهلهم وأخطائهم، لا إلى حاكم، فان الناس في حاجة الى رعاية فائقة وقلب رحيم، وحِلم لا يضيق بجهلهم وأخطائهم، لا إلى حاكم متعالٍ يتطاول بالغطرسة وادّعاء العظمة في غير حق‏.‏ وما أرحمَ ما كان قلب الرسول الكريم، وما أجمل ما كانت سيرته مع الناس‏:‏ ما غضِب لنفسه قط، ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، بل وَسِعَهم حلمُه وبره وعطفه‏.‏ وسيرته طافحة بذلك‏.‏

‏{‏فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر‏}‏ ما أحلى هذا الكلام وما أرقّة وأعطفه‏!‏ وما أعظم قوله سبحانه ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر‏}‏، فهو نص قاطع في تقرير مبدأ الشورى في الحكم الإسلامي، لا الاستئثار بالسلطة الفردية المتحكمة‏.‏ وانه لمبدأ عظيم هذا الذي يقرره القرآن بصدد ذلك، وهو المعمول به اليوم عند الأمم الراقية التي سقتنا‏.‏ اما نحن فقد تأخرنا لأننا أردنا لهذه التعاليم الحكيمة الراشدة، واتّبعنا مبدأ التسلُّط والقهر‏.‏ واتخذنا اسم «الرعيّة» وكأنه من الرعي للسائمة لا من الرعاية للبشَر‏.‏

فاذا عقدت عزمك يا محمد على أمر بعد المشاورة، فامض فيه متوكلاً على الله، ان الله يحب الواثقين به، فينصرهم ويرشدهم الى ماهو خير لهم‏.‏

اذنْ فالتوكل يجب ان يكون مقروناً بالسعي والعزم والعمل لا نابعاً من التقصير ورغبة في التخلص من العناء، وإلا فهو تواكلُلٌ يمقُتُه الله‏.‏

في الحديث المعروف الذي رواه الترمذي والبهيقي وأبو نعيم وابن أبي الدنيا وابن حبّان‏.‏ «قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أعقلُ ناقتي وأتوكل أو أطلقها وأتوكل‏؟‏ فقال له الرسول الكريم‏:‏» عقِلها وتوكيل «‏.‏

وقد سار هذا الحديث مثلاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

اذا اراد الله نصركم كما حدث يوم بدر، حين عملتم بإرشادات الرسول وثبتُّم في مواقفكم، كما اتكلتم على توفيق الله ومعونته فلن يغلبكم أحد‏.‏ وإن يُرد خذلانكم ويحرمكم معونته، لعدم اتخاذككم أسباب النصر أو لشيء من التنازع وعصيان القائد فيما أمركم به ‏(‏كما جرى يوم أحد‏)‏ فلا ناصر لكم سواه‏.‏ وعلى الله وحده يجب ان يعتمد المؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 161‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

الغل‏:‏ الأخذ خِفية كالسرقة، يقال غلّ فلان الغنيمة يغُل غلولاً، وأغل إغلالا خان فيها، وأخذ شيئا منها خفية‏.‏ تُوفّى‏:‏ تعطى‏.‏

«روي ان هذه الآية نزلت يوم أحد عندما ترك الرماة موقعهم على الجبال طلباً للغنيمة، إذ قالوا‏:‏ نخشى أن يقول النبي‏:‏ مَن أخذ شيئاً فهو له، وان لا يقسم الغنائم كما قسمها يوم بدر‏.‏ فقال لهم الرسول‏:‏ ألم أعهد اليكم الا تتركوا موضعكم حتى يأتيكم أمري‏؟‏ فأجابوا‏:‏ تركنا بقية اخواننا وقوفا‏.‏ فقال لهم‏:‏ بل ظننتم أنا نغلّ ولا نقسم»‏.‏

وكان بعض المنافقين قد اشاعوا ان الغنائم يوم بدر قد اختفت، واتهموا الرسول الكريم انه اخفاها‏.‏ فكذّبهم الله‏.‏ والمعنى هنا‏:‏

لا يجوز لنبي ان يخون في الغنائم، لأن النبوة أساسها الأمامنة‏.‏ وفي هذا نفي الخيانة عن جميع الأنبياء‏.‏ لقد عصمهم الله من الغلول والخيانة لأن النبوة أعلى المناصب الانسانية، فصحابُها معصوم عن كل ما فيه دناءة وخسة‏.‏ اما الناس فقد يقع منهم ذلك، فمن فعله أتى بما غل به يوم القيامة، ليفتضَح فيه أمره ويزيد به عذابه‏.‏

‏{‏ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ يومذاك تعطى كل نفس جزاء ما علمت وافيا تاما، لا تلقى ظلماً بقصان في الثواب او زيادة في العقاب‏.‏

«روى عبدالله بن احمد عن عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اياكم والغُلول، فان الغلول خزي على صاحبه يوم القيامة، أَدُّوا الخيط والمخيط وما فوق ذلك، وجاهدوا في سبيل الله القريب البعيد، في الحاضر والسفر، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة‏.‏ إنه لَينجي الله تبارك وتعالى به من الهم والغم‏.‏ وأقيموا حدود الله في القريب والبعيد، ولا تأخذْكم في الله لومةُ لائم»‏.‏

وهناك أحاديث كثرة في هذا الموضوع‏.‏

وقد علمتْ هذه الآية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة عملها في تربية السلف الصالح من المسلمين حتى أتوا بالعجب العجاب‏:‏

حُملتع الغنائم الى عمر بن الخطاب بعد القادسية، وفيها تاج كسرى وإيوانه لا يقوَّمان بثمن فنظرَ رضي الله عنه الى ما أدَّاه الجندُ في غبطة وقال‏:‏ «ان قوماً أدوا هذا لأمِيرهم لأمناء»‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب‏:‏ «ان يُغَل» على البناء للمفعول، والمعنى على هذه القراءة ما صح لنبي أن ينسب الى الغلول أو يخونه أحد، أما عند قراءاتها «يغُل» بفتح الياء وضم الغين فالمعنى المقصود ان يخون في الغنائم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 163‏]‏

‏{‏أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏162‏)‏ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏163‏)‏‏}‏

باء‏:‏ رجع‏.‏ مأواه‏:‏ منزله‏.‏

أردف الله تعالى بهذه الآية ليبين أن جزاء المطيعين ليس جزاء المسيئين‏:‏ أفمن اتقى وسعى في تحصيل رضا الله بالعمل الطيب والطاعة التامة مثلُ الذي باء بغضب عظيم من الله بسبب عصيانه وغلوله وخيانته‏!‏‏!‏ كلا، ان منزل العاصي الذي غلّ وخان هو جهنم، وساءت منقلبا‏.‏

والحق ان كلاً ممن اتبع رضوان الله ومن باء بغضب من الله طبقات مختلفة ومنازل متفاوتة، حسب الأعمال الحسنة أو السيئة‏.‏ ولا يعلم هذه الدرجات الا من أحاط بكل شيء علما، لأه جلّ جلاله هو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏164‏)‏‏}‏

يزكيهم‏:‏ يطهرهم‏.‏ الكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ الحكمة‏:‏ السنَّة، والمعرفة بجميع أنواعها‏.‏

لقد مرّ نظير الآية في سورة البقرة، الآية129‏.‏

بعد أن نفى الله الغلول والخيانة عن النبي الكريم على أبلغ وجه أكد بذلك بهذه الآية فأبان نه قد تفضل على المؤمنين بأن يبعث فيهم رسولا منهم، وُلد في بلدهم فعرفوه حق المعرفة ولم يروا فيه طوال حياته الا الصدق والأمانة حتى فاز بلقب محمد الأمين‏.‏ وقد جاء هذا الرسول يتلو عليهم آيات الله الدالة على القدرة والوحدانية، ويوجه النفوس الى الاستفادة منها والاعتبار بها‏.‏

ها كما جاء محمد ليزكّيهم، أي يطهّرهم من العقائد الزائفة، ويطهر بيوتهم وأعرضهم ومجتمعهم من دنس الجاهلية وشِركها‏.‏ كذلك جاء يعلّمهم القرآن والكتابة والقراءاة بعد ان كانوا أُميّين ضالين‏.‏

«وعلى أية حال، فقد تضمنت هذه الآية الأمور التالية‏:‏

01 ان الرسول احسان من الله الى الخلق، لأن الرسول ينقلهم من الجهل الى العلم، ومن المذلَة الى الكرامة، ومن معصية الله وعقابه الى عطاعته وثوابه‏.‏

02 ان هذا الاحسان قد تضاعف على العرب بالخصوص لأن محمداً ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏ منهم، يباهون به جميع الأمم‏.‏

03 انه يتلو عليهم آيات الله الدالة على وحدانيته، وقدرته وعلمه وحمكته‏.‏

04 انه يطهّرهم من أرجاس الشرك والوثنية، ومن الاساطير والخرافات والتقاليد الضارة، والعادات القبيحة‏.‏

05 يعلّمهم الكتاب أي القرآن الذي جَمَعَ كلمتهم، وحفظ لغتهم، وحثّهم على العلم ومكارم الأخلاق، ويعلمهم الرسول أيضاً الحكمة، وهي وضع الأشياء في مواضعها، وقيل‏:‏ ان المراد بها هنا الفقه‏.‏‏.‏»

يقول جعفر بن أبي طالب الصاحبي الجليل مخاطباً النجاشي عندما لجأ اليه المسلمون في أول بدء الدعوة‏:‏ «أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القويُّ منا الضعيف، حتى بعث الله الينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه‏.‏ فدعانا الى الله وحده لنوحّده، ونخلع ما كنا نعبد وآباؤنا من الحجارة والأوثان، وأمرَرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل ما اليتيم، وقذف االمحصنات، وأمرنا ان نعبد الله ولا نشرك به شيئاً وأمرَنا بالصلاة والزكاة والصيام»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 165‏]‏

‏{‏أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

لا ينبغي ان تعجبوا وتجزعوا مما حل بكم يوم أُحُد من ظهور المشركين عليكم، وقتْل سبعين رجلاً منكم، فلقد أصبتم منهم مِثْلَيْها يوم بدر بقتل سبعين رجلاً منهم وأسر سبعين آخرين‏.‏ اذن كان نصركم في بدر ضِعف انتصار المشركين في أحد‏.‏

وقد كان سبب تعجبهم ان بعضهم قال‏:‏ نحن ننصر دين الله وفينا رسوله، وهم ينصرون الشرك بالله، ومع ذلك يُنصرون علينا‏؟‏ فرد الله عليهم بهذه الآية بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا‏}‏، و‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ اي أن الذي أصابكم انما هو من عند أنفسكم‏:‏ لقد خالفتم الرسول في أمور كثيرة، فقد كان من رأيه البقاء في المدينة ومحاربة المشركين فيها اذا هاجموا، لكنكم تحمستم وأردتم الخروج للقاء العدو‏.‏ ثم إنكم تنازعتم الرأي فيما بينكم‏.‏ ثم كانت الطامة الكبرى بمخالفة الرماة منكم أمر الرسول ونزولهم عن الجبل‏.‏‏.‏ كل هذه المخالفات أدّت الى الهزيمة‏.‏ والله قادر على كل شيء، ومن مقتضى قدرته ان تنفُذ سُنَنُه، وأن تمضي الأمور وفق حكمة وارادته، وألا تتعطل سُنّته التي أقام عليها الكون والحياة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 166‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏166‏)‏‏}‏

وكل ما أصابكم أيها المؤمنون يوم التقى جمعُكم وجمع المشركين في أحد إنما وقع بإذن الله وارادته، وليُظهر للناس ما عَمِله من أيمان المؤمنين حقا‏.‏ إن هزيمتكم لم تقع مصادفة ولا عبثاً ولا سدى، فكل حركة محسوبٌ حسابها في تصميم هذه الكون، هي في مجموعها تجري وفق السنن والقوانين الثابتة التي فرضها الله لحكمةٍ مدبَّرة يجري كل شيء في نطاقها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 167‏]‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ‏(‏167‏)‏‏}‏

وكما يُظهر اللهُ حال المؤمنين من قوة الايمان وضعفه، واستفادتهم من المصائب حتى لا يعودوا الى أسبابها، يُظهر حال المنافقين ‏(‏من أمثال عبد الله بن أبي سلول‏)‏ ويفضح موقفهم يوم أُحد‏.‏ وقد كشفهم الله على حقيقتهم يومذاك، اذا انصرفوا ورجعوا الى المدينة‏.‏ وتبعهم ابو جابر السلمي من الصحابة يناديهم وقول لهم‏:‏ تعالوا قاتِلوا في سبيل الله‏.‏ فأجابوه‏:‏ لو نعلم انكم ستلقون قتالاً في خروجكم لذهبنا معكم‏.‏ لقد كانوا غير صادقين في ذلك، بل إنهم في مقالتهم هذه أقرب الى الكفر منهم الى الايمان‏.‏ وما كان اعتذارهم الا على وجه الخديعة والاستهزاء، يقولون بأفواههم «ليس هناك حرب» مع أنهم يعتقدون في قلوبهم أنها واقعة‏.‏ ومع ذلك فقد أصروا على الارتداد‏.‏

ثم أكد الله كفرهم ونفاقهم بقوله‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ‏}‏ من الكفر والكيد للمسلمين وتربُّص الدوائر بهم‏.‏ ثم مضى يكشف بقية موقفهم في محاولة خلخلة الصفوف والنفوس‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 168‏]‏

‏{‏الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏168‏)‏‏}‏

ارأوا‏:‏ ادفعوا‏.‏

قال الذين تخلّفوا عن القتال ورجعوا الى المدينة، في شأن اخوانهم الذين خرجوا وقُتلوا‏:‏ لو أنهم أطاعونا وقعدوا مثلنا لنجَوا من القتل كما نجونا‏.‏ وهكذا لم يكتفِ المنافقون بالتخلف والاعتذار الكاذب، وما أحدثه ذلك من رجة وبلبلة في النفوس، بل راحوا يثيرون الحسرة في قلوب أهل الشهداء بعد المعركة‏.‏ فرد الله تعالى عليهم رداً قاسياً دحض حجتهم وأبان كذبهم، كما وبخهم على ما قالوا فأبلغ نبيَّه ان يتحداهم ‏{‏قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، اي ادفعوا عن أنفسكم الموت ان كان الحذَر يمنع من القدَر كما تزعمون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 171‏]‏

‏{‏وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ‏(‏169‏)‏ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏170‏)‏ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

هنا شرح الله حقيقةً من أعظم الحقائق التي تبشّر المؤمنين وتحفزهم على الجهاد في سبيل الله، وهي ان الذين قُتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل هم أحياء عند ربهم في عالم آخر غير هذا العالم، قد شرّفهم ربهم في تلك الحياة وأكرمهم بها‏.‏ وهي حياة غيبية لا ندركها نحن، يُرزقون فيها رزقاً طيبا يعلمه الله، وتتألف وجوههم من السرور بما أعطاهم، كما يستبشرون بخلاص اخوانهم الذين تركوهم في الدنيا مقيمين على منهج الايمان والجهاد، وانه لا خوف عليهم من مكروه ولا هم يحزنون لفوات محبوب‏.‏ إنهم يستبشرون بنعمة الله فتتألف وجوههم بالبشر والسرور بما أعطاهم ربهم من نعمة الشهادة ونعيم الجنة وعظيم الكرامة، انه لا يضيع أجر المؤمنين جميعا‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عام‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ‏}‏ بشديد التاء مع الكسرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 174‏]‏

‏{‏الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏172‏)‏ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ‏(‏173‏)‏ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ‏(‏174‏)‏‏}‏

القرح‏:‏ الجرح، والمراد هنا كل ما أصاب المؤمنين من مشقات في وقعة أُحد وما تكبدوه من الخسائر‏.‏ حسبنا الله‏:‏ كفانا الله‏.‏ فانقلبوا‏:‏ فرجعوا‏.‏

في هذه الآيات وصف عظيم للمؤمنين الصادقين، وهم الذين لبّوا دعوة الرسول الى استئناف الجهاد من بعد ما أصابهم من جرح وآلام يوم أُحُد‏.‏ لقد اتقوا عصيان ربهم ورسوله الكريم، فاستحقوا الأجر العظيم على ما قاما به من جليل الأعمال‏.‏

«وذلك ان أبا سفيان وأصحابه، لما رجعوا من أحد، ندموا وهمُّوا بالرجوع حتى يستأصلوا من بقي من المؤمنين‏.‏ فبلغ ذلك رسولَ الله، فأراد ان يُرهبَهم ويريهم القوة من نفسه وأصحابه، فندب أصحابه للخروج في أثر أبي سفيان، وقال‏:‏ لا يخرجنّ معنا الا من حضر يومنا بالأمس‏.‏ وهكذا خرج مع جماعة من أصحابه وفيهم عدد من الجرحى قد تحاملوا على أنفسهم، حتى بلغوا مكانا سامه» حمراء الأسَد «‏.‏ وعندما سمع أبو سيفيان بخروج النبي وأصحابه في طلبه، خشي العاقبة، فأسرع في جماعته منقلباً الى مكة»‏.‏

وهنا يقول‏:‏

ان هؤلاء الذين خوّفهم الناس بأن قالوا لهم‏:‏ إن اعداءكم قد جمعوا لكم جيشاً كثيفا فخافوهم، لكنهم لم يضعفوا، بل ازدادوا ايماناً بالله وثقة من نصره، كما أجابوا‏:‏ ليس يهمَّنا هؤلاء الذين جمعوا الجموع، فالله معنا ان ينصرنا على قلّتنا وكثرتهم، ثم خرجوا مع رسول الله للقاء العدو، لكنهم لم يلقوه لأنه أسرع خائفا الى مكة، فرجعوا بدورهم الى المدينة مع الرسول هؤلاء قد فازوا بنعمة السلام، واطاعهة رسوله‏.‏ وبذلك ربحوا في تجارتهم ولم يمسَسْهم سوء‏.‏

روى البيهقي عن ابن عباس ان عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم باعها، فربح مالاً، فقسمه بين أصحابه، فذلك من فضل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 175‏]‏

‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏175‏)‏‏}‏

ان الذي وسوس الى أعوانه ان يقولوا‏:‏ ان الناس قد جمعوا لكم، لهو الشيطان‏.‏ لقد أراد أن يخوّفكم بأوليائه وأنصاره المشركين ويوهمكم ان المشركين أولو قوة وبأس شديد، فمن مصلحتكم ان تقعدوا عن لقائهم‏.‏ لا تخافوا أيها المؤمنون من أبي سفيان وأنصاره، ولا ترهبوا جمعهم، بل خافوني وأطيعوا أوامري لأنكم أوليائي وأنا وليُّكم، متكفل لكم بالنصر والظفَر ما ظَلَلْتم صادقين في ايمانكم قائمين بما يفرضه عليكم هذا الايمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 177‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏176‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏177‏)‏‏}‏

يتجه الخطاب الى الرسول الكريم بهذه الآية ليسلّيه، كما سلاّه في كثير من الآيات، عما يُحزنه من إعراض الكافرين عن الايمان‏.‏ ذلك ان بعض المنافقين أظهروا كفرهم وصاروا يخوّفون المؤمنين ويقولون لهم‏:‏ ان محمداً طالب مُلك، فتارة يكون الأمر له وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غُلب‏.‏ ومن شأن هذه المقالة ان تنفِّر الناس من الاسلام‏.‏ فقال الله‏:‏ لا تحزن أيها النبي الكريم من مسارعة المنافقين وبعض اليهود الى نصرة الكافرين بكل ما أُوتوا من الوسائل، انهم لن يضرّوك والمؤمنين معك شيئاً‏.‏ اما عاقبة هذه المسارعة الى الكفر فهي وبال عليهم‏:‏ فالله يريد الا يجعل لهم نصيباً من ثواب الآخرة بل ان يذيقهم عذاباً عظيماً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 178‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

نُملي لهم‏:‏ نُمهلهم‏.‏ اثما‏:‏ ذنبا‏.‏

ولا يحسبنّ هؤلاء الكفارون ان إمهالَنا لهم حين نمد في أعمارهم ونهيّئ لهم أسباب النعيم في حياتهم الدنيا هو خير لهم، كلا، ان اطالة العمر وسعة الرزق دون إيمان ولا عمل صالح يُفْضِيان بهم الى الاستمرار في المعاصي‏.‏‏.‏ ومن ثَم استحقاق ما أعد الله لهم من عذاب مهين مقابلَ ما كنوا فيه من مقام ومكانة ونعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 179‏]‏

‏{‏مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏179‏)‏‏}‏

يميز ويُمييٍِّز معناهما واحد وقرئ بهما، يجتبي‏:‏ يختار‏.‏

يبين الله تعالى هنا ان الشدائد هي محكّ صدق الايمان، ولذلك يقول‏:‏ ما كان الله ليترككم يا معشر المؤمنين على ما أنتم من اختلاط المؤمن بالمنافق حتى يميز بينكم بالمحنة والتكاليف والشدائد‏.‏ بذلك يَظهر المنافق الخبيث والمؤمن الطيب الصادق الايمان‏.‏ ولم يكن من شأنه تعالى أن يُطلع الناس على الغيب، فلو فعل ذلك لأخرج الانسان من طبيعته‏.‏ لذا جرت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب بالامتحان بالشدائد، كما تم أُحد، حيث ابتلى المؤمنين بظهور العدو عليهم، جزاء ما فعلوا من المخالفة‏.‏ وقد قال تعالى ‏{‏قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ‏}‏‏.‏

ولكن الله يصطفي من رسُله من يشاء، فيطلعه على ما يشاء من الغيب، فيعلم ذلك الرسول المؤمنَ من المنافق‏.‏ أما أنتم يا أصحاب محمد ‏{‏فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ الذين ذكرهم في كتابه‏.‏ وإن تؤمنوا بما جاؤوا به من أخبار الغيب وتتقوا الله بترك ما نهى عنه، وفعل ما أمر به، لفكم أجر عظيم لا يقدَّر ولا يوصف‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي‏:‏ «يُمَيِّز» بضم الياء الأولى وفتح الميم وكسر الياء الثانية وتشديدها والباقون‏:‏ «يَمِيز» بفتح الياء وكسر الميم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 180‏]‏

‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏180‏)‏‏}‏

سيطوَّوقون ما بخلوا‏:‏ سيُلزمون به لزوم الطوق للأعناق‏.‏

كان الكلام فيما مضى في التحريض على بذل النفس في الجهاد، وهنا شرع يحثُّ على بذل المال في سبيل ذلك‏.‏ ولمال بطبعه عزيز جدًّا على الناس، حتى ان بعضهم لَيفدي نفسه من أجل ماله‏.‏ لذلك ذكر أشد أنواع الوعيد لمن يبخل بماله على الجهاد، واللهُ يرث الأرض والسماوات، ويبقى الملك له وحده‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ بالتاء كما هو هنا، والباقون «يعملون» بالياء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 183‏]‏

‏{‏لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏181‏)‏ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏182‏)‏ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

عهد الينا‏:‏ أوصانا‏.‏ بقربان‏:‏ هو ما يذبح من الأنعام تقربا الى الله‏.‏ بالبينات‏:‏ الآيات والواضحة‏.‏

أبو بكر وفنحاص

«روى الطبري عن ابن عباس قال‏:‏ دخل أبو بكر بيت المدارس فوجدَ من يهودَ ناساً كثيرا، قد

اجتمعوا الى رجل منهم يقال له فنحاص، كان من علمائهم وأحبارهم‏.‏ فقال أبو بكر لفنحاص‏:‏ ويحك يا فنحاص، إتَّق الله وأسلم، فوالله إنك لَتعلم ان محمداً رسول الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والانجيل‏.‏ قال فنحاص‏:‏ واللهِ يا أبا بكر ما بنا الى الله من فقر، وإنه إلينا لَفقير‏.‏ وما تضرع اليه كما يتضرع الينا‏.‏ وإنّا عنه لأغنياء‏.‏ ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، يشير الى قوله تعالى ‏{‏مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏‏.‏ فغضب ابو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، قوال والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربتُ عنقك يا عدو الله، فذهب فنحاص الى رسول الله، فقال‏:‏ يا محمد، انظر ما صنع بي صاحبُك‏.‏ فقال رسول الله لأبي بكر‏:‏ ما حَمَلَكَ على ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، إن عدو الله قال قولاً عظيما‏.‏‏.‏ زعم ان الله فقير، وانهم عنه أغنياء‏.‏ فلما قال ذلك غضبُ لله مما قال، فضربت وجهه‏.‏ فجحد ذلك فنحاص، وقال‏:‏ ما قلت ذلك» فأنزل الله تعالى ردّاً عليه وتصديقاً لأبي بكر ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

المدارس‏:‏ ما كان الدرس، وبَيْعة اليهود، وهم يلفظونها مدارش‏.‏

قد سمع الله من قالوا هذه المقالة المنكرة ولم يَخْفَ عليه شيء‏.‏ وسيجزيهم على ذلك أشد الجزاء ولقد سجّل عليهم ذلك القولَ الشنيع كما سجل عليهم قتلهم الأنبياء ظلماً وعدوانا، وسينتقم منهم يوم القيامة ويقول لهم‏:‏ ذوقوا عذاب النار المحرقة جزاء أعمالكم في الدنيا‏:‏ كقتل الانبياء، ووصف الله بالفقر، وتكبركم وتبجحكم‏.‏

‏{‏وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ‏}‏ فلا يكون عاقبة الا عدلاً ولا يعاقب غير المستحق للعقاب‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة‏:‏ «سيكتب ما قالوا» بالياء المضمومة، و«قتلهم» بضم اللام، و«يقول» بالياء‏.‏

ان من يدّعون فقر الله وغناهم هم الذين قالوا ان الله أوصانا في التوراة الا نؤمن لرسولٍ إلا اذا دلّل على صدقه بأن يأتينا بشيء يقرّبه لوجه الله وتنزل نار من السماء فتأكله، فقل لهم يا محمد‏:‏ لقد بعث الله رسلاً جاؤا بما اقترحتم، ومع ذلك كذّبتموهم وقتلتموهم‏!‏ فِلَم فعلتم ذلك ان كنتم صادقين في وعدكم بأن تؤمنوا عندما يتحقق ما تريدون‏؟‏

رويَ عن ابن عباس ان كعب بن الأشرف، ومالك من الصيف، وفنحاص، وجماعة من أحبار اليهود أتوا رسول الله فقالوا‏:‏ يا محمد، تزعم انك رسول الله، وأنه أوحى اليك كتاباً، وقد عهد إلينا في التوراة الا نؤمن لرَسولٍ حتى يأتينا بقربان تأكله‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

وفي الآية رد صريح ومجابهة قوية تكشف عن كذبهم والتوائهم وإصرارهم على الكفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 184‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏184‏)‏‏}‏

الزبر‏:‏ جمع زبور وهو الكتاب‏.‏

فإن كذّبوك أيها النبي بعد ان جئتهم بالبينات الساطعة، والكتاب الهادي الى سواء السبيل، فلا تأسَ عليهم ولا تحزن لعنادهم وكفرهم‏.‏ لقد جاء قبلك رسل كثيرون كذّبهم أقوامهم، ومع انهم جاؤوهم بالأدلة الساطعة والكتب السماوية الدالة على صدق رسالتهم، فليس بالعجيب منهم ان يقاوموا دعوتك‏.‏ ذلك ان نفوسهم منصرفة عن طلب الحق وتحرّي سبل الخير‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ ابن عامر «وبالزبر» باعادة حرف العطف‏.‏ وقرأ هشام «وبالكتاب»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏185‏)‏‏}‏

زحزح عن النار‏:‏ أُبعد عنها‏.‏ متاع الغرور‏:‏ المتاع كل ما يُنتفع به ويتمتع به‏.‏ الغرور‏:‏ الخداع والغفلة وكل زخرف باطل‏.‏

بعد كل ما تقدم يتجه الخطاب الى المسلمين، يحدثهم عن القيم التي ينبغي لهم ان يحرصوا عليها، ويضحّوا من أجلها‏.‏ وهو يخبرهم ان هناك متاعب وآلاما، فيجب ان يتجمّلوا بالصبر والتقوى‏.‏ كما يذكّرهم بحقيقة مقررة، وهي ان الحياة في هذه الأرض محددة بأجل موقوت ثم تأتي نهايتها فيموت الصالحون والطالحون، المجاهدون والقاعدون، الشجعان والجبناء، العلماء والأنبياء‏.‏ كل نفس ذائقة الموت لا محالة والبقاءُ للهِ وحده‏.‏‏.‏ يومذاك يعطى العباد جزاء أعمالهم وافيا، فمن خلَص من العذاب وأُبعد عن النار فقد فاز فوزاً عظيما‏.‏

روى الامام أحمد ومسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله «من أحبّ ان يُزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتدركْه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت الى الناس ما يحبّ ان يؤتى اليه»‏.‏

وما حياتنا هذه التي نتمتع بلذاتها، من مأكل ومشرب أو جاه ومنصب وسيادة، الا متاع الغرور، لأنها تخدع صابحها وتشغله كل حين بجلْبِ لذاتها ورفع آلامها ومهما عاش الانسان وجمع من مالٍ أو حصل على منصب فانه مفارق هذا كله في نهاية الأم‏.‏ وما الحياة الدنيا الا كما قال الشاعر‏.‏

«فما قضى أحد مها لُبانتَه *** ولا انتهى أربٌ إلا الى أرب»

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 186‏]‏

‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏186‏)‏‏}‏

لتبلون‏:‏ لتمتحَنُنَّ‏.‏ من عزم الأمور‏:‏ من صواب الرأي والتدبير‏.‏

ستُختبرون أيها المؤمنون في أموالكم‏:‏ بالنقص والنفاق والانفاق والبذل في جميع وجوه البر، وفي أنفسكم‏:‏ بالجهاد، وبالقتل في سبيل الله، والأمراض والآلام‏.‏ وسوف تسمعون من اليهود والنصارى والمشركون كثيرا مما يؤذيكم من السب والطعن، فإن قابلتم ذلك كله بالصبر والتقوى، كان ذلك من صواب الرأي وحسن التصرفن، وهو ما يجب العزم على التمسّك به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏187- 187‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

الميثاق‏:‏ العهد المؤكد‏.‏ فنبذوه‏:‏ فرموه‏.‏ واشتروا به ثمنا قليلا‏:‏ وأخذوا بدله شيئاً قليلا من مطامع الدنيا‏.‏

بعد ان بين الله تعالى شُبهة اليهود ومطامعهم في نبوة سيدنا محمد جاء هنا يفضح موقف أهل الكتاب جميعاً في مخالفتهم عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب‏.‏ وقد تضمّن سياق السورة الكثير من أباطيل أهل الكتاب وأقاويلهم وبخاصة اليهود‏.‏ ومن أبرزِها كتمانهم للحق الذي يعلمونه حق العلم، بغية إحداث البلبلة والاضطراب في الدين الاسلامي، وإنكاراً لوحدة المبادئ بينه وبين الأديان التي قبله‏.‏ هذا مع ان التوراة بين ايديهم، ومنها يعلمون أن ما جاء به محمد هو الحق من عند الله‏.‏ إذنْ، لماذا يكتمون الحق ولا يبالون به‏؟‏ طمعاً في حطام تافه من عرض الدنيا‏!‏

هنا يكشف الله ألا عيبهم ثم يخاطل رسوله والمؤمنين‏:‏ اذكروا حين أخذ الله الميثاق على أهل الكتاب بلسان أنبيائهم أن يوضحوا معاينه ولا يحرّفوه عن مواضعه، أو يحفوا شيئا من آياته عن الناس‏.‏‏.‏ لكنهم ألقوه وراء ظهورهنم واستبدلوا به حطام الدنيا ليتمتعوا بلذاتها الفانية، ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏‏.‏

وينطبق هذا المسلمين اليوم، فهم قد اتبعوا أهواءهم وتركوا كتاب الله وراء ظهورهم‏.‏ من ثم أصبحوا حيارى، لا يدرون ماذا يعملون، فيما تتخطفهم الأمم من كل جانب‏.‏

قال الزمخشري رحمه الله‏:‏ كفى بهذه الآية دليلاً على انه مأخوذ على العلماء ان يبيّنوا الحق للنار وما علموه، وان لا يكتموا منه شيئا‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ما أخذ الله على أَهل الجهل ان يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا‏.‏

وها نحن نرى كلتا الطائفتين مقصرة أشد التقصير‏.‏ وعذاب الجهّال منصبٌّ على رؤوس العالمِين‏.‏ وقد ألهى الطمعُ في المال والجاه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 189‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏188‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏189‏)‏‏}‏

«روى الامام أحمد والبخاري مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم ان رسول الله سأل بعض احبار اليهود عن شيء فكتموا حقيقته، وأخبروه بغير الحقيقة، وخرجوا وقد أروه ان قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك اليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه ما سألهم عنه» وروى البخاري ايضا عن ابي سعيد الخدري أن رجالاص من المنافقين كانوا اذا خرج رسول الله الى الغزو تخلّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم ذاك‏.‏ فاذا قدم من الغزو واعتذروا اليه وحلفوا، وأحبوا أن يُحمدوا بما لم يفعلوا‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

ولا منافاة بين الروايتين، لأ، الآية عامة في جميع ما ذُكر‏.‏ وهي وان كانت في اليهود والمنافقين ففيها ترهيب للمؤمنين، وتنسحب على كل ما يجب أن يُحمد بما لم يفعل‏.‏ وقد جاء عن النبي في الصحيحين‏:‏

«من أدّعى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله الا قلة»‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ لا تظننّ أيها النبي ان الذين يفرحون دائما بما يأتون من أفعال قبيحة، ويحبون الثناء بما لم يفعلوه سيكونون في نجوة من العذاب، فقد أعدّ الله لهم عذاباً عظيما يوم القيامة لا مفر منه‏.‏ ولله ملك السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير، يؤاخذ المذنبين بذنوبهم ويثيب المسحنين على احسانهم‏.‏

قراءات

قرأ ابن كثير وأبو عمرو «لا يحسبن الذين يفرحون‏.‏‏.‏‏.‏» بفتح الياء وضم الباء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 195‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏190‏)‏ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏191‏)‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏192‏)‏ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ‏(‏193‏)‏ رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏194‏)‏ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

الخلق‏:‏ التقدير والترتيب الدال على الاتقان‏.‏ اختلاف الليل والنهار‏:‏ تعاقبهما‏.‏ الألباب‏:‏ العقول‏.‏ وعلى جنوبهم‏:‏ مضطجعين‏.‏ الأبرار‏:‏ المحسنون، واحدُها بار أو بَر‏.‏ على رسُلك‏:‏ على أَلسنة رسلك‏.‏

من أسلوب القرآن الكريم انه يجذب النفوس والعقول من الاشتغال بالخلق الى الاستغراق في معرفة الحق، فيأتي بين الآيات وفي أواخر السور بآيات مشوّقة تريح الأعصاب وتشوق القلوب‏.‏ فقد اشتملت هذه الآيات الحكيمة على ثلاثة أمور‏:‏

الأول‏:‏ لما طال الكلام في تقرير الأخذ والرد والجواب عن شبهات المبطلين، عاد التنزيل الى إثارة القلوب بِذِكر ما يدل على التوحيد والالوهية‏.‏ فقال‏:‏ ان هذا الكون بذاته كتابٌ مفتوح، يحمل دالائل الايمان وآياته، ويشير الى أن وراء هذا الكون يداً تدبره بحكمة، ويوحي بأن وراء هذه الحياة الدنيا حياةً أخرة، وحساباً وجزاء‏.‏

هذا ما اتفقت على وجوده الأديان الكتابيّة، وان اختلفت في تمثيل الحياة الأخرى‏.‏

وقد آمن الفلاسفة بالحياة الاخرى قبل الاديان الكتابية جميعاً وبعد مجيئها أيضا‏.‏ فمن أشهر المؤمنين بها قبل الأديان «أفلاطون»، ومن أشهرهم بعدها «عمانويل كانت»، وهما يجمعان أطراف الآراء الفلسفية في سبب الإيمان ببقاء النفس بعد الموت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ونريد من الاشارة الموجزة الى رأي هذين الفيلسوفين، ان يذكر الناظرون في مسألة الحياة بعد الموت انها مسألة بحث وتفكير، لا قضية اعتقاد وايمان فحسب‏.‏‏.‏ ان العقل لا يرخجها من تناول بحثه، فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال‏.‏ وعلى هذا، ينبغي ان يروض فكره كلُّ من ينظر الى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم‏.‏ وانما يدرك هذه الدلائل، ويرى هذه الحكمة «أُولو الألباب» من الناس، لا الذين يمرون بهذا الكتاب المفتوح وأعينهم مغمضة، وعقولهم مغلقة غير واعين‏.‏

والثاني‏:‏ مدحٌ لأولي الألباب الذين يذكرون الله على كل حال، فهم يتفكرون في عظمة هذا الكون ثم يبتهلون الى الله بهذه الدعوات الصادقة، المنبعثة من قلوب صافية مؤمنة‏.‏

والأمر الثالث‏:‏ استجابة الخالق العظيم لهم، بأنه لا يضيع أجر أحد، وأنهم سيرجعون الى رب رحيم، عادل، قد أعدّ لهم أحسن الثواب وأجمل الاقامة‏.‏ وها هو التفسير باقتضاب‏:‏

ان في خلق الله للسماوات والأرض، بما فيهما من ابداع، وإحكام نظام، وبديع تقدير، وفي اختلاف الليل والنهار وتعاقبهما بنظام دقيق نحسّ آثاره في أجسامنا بفعل حرارة الشمس وبرد الليل لدلائل بيناتٍ لأصحاب العقول المدركة على وحدانية الله، وكمال قدرته‏.‏

وفي هذه الآية اشارة الى حقائق مذهلة في هذا الكون العجيب، ذلك ان السماء ما هي الا آية من آيات الله تبدو لنا بتأثير الاشعة الشمسية على الغلاف الجوي المحيط بالأرض‏.‏

فعندما تسقط هذه الأشعة على ذريرات العناصر الكيماوية التي يتألف منها الجو، وما يحمله من دقائق عالقة به تنعكس هذه الأشعة وتتشتت، فنرى نحن الضوء الأبض الذي يتألف من جميع الألوان المرئية‏.‏

وصفوة القول، ان ضور النهار يتطلب الاشعاع الشمسي، وكميةً متناسية من الغبار الجوي‏.‏ فقد حدث في سنة 1944 أن أظلمت السماء فجأة في وضح النهار، ولشدة ظلمتها صار النهار كأنه الليل‏.‏ وقد ظل الأمر كذلك زمناً وجيزاً، ثم تحولت السماء الى لون أحمر، تدرّج الى لون برتقالي، فأصفر، حتى عادت الى حالتها الطبيعية، بعد نحو ساعة أو أكثر‏.‏

وقد تبين فيما بعد ان هذه الظاهرة نشأت من تفتُّت نيزك في السماء، استحال الى رماد، وحملته الرياح الى مسافات بعيدة من أواسط افريقية الى شمالها، ثم الى غربي آسيا، حيث شوهدت هذه الظاهرة في سورية‏.‏ وتفسير ذلك ان الغبار المعلق في الفضاء قد حجب نور الشمس، فلما قلّت كثافته أخذ الضوءُ في الاحمرار والاصفرار الى ان عاد طبيعيا‏.‏

أما ما نراه في هذه السماء من نجوم وأجرام سمايوة ومجرّات وكائنات، فهي أمور كُتب فيها مجلدات وموسوعات يتطلب التعرف على أنظمتها دراسة واسعة وتخصصا كبيرا، وهي مظهر من مظاهر قدرة الله سبحانه وتعالى التي تتجلى في خلقه كلَّ ذلك‏.‏

والأرض أهم عالم عرفناه، وفيها أحوال لا تُوجد مثلها في شيء من هذا الكون الواسع‏.‏ هي على ضخامتها في نظرنا لا تساوي في الحقيقة ذرة في هذا الكون العجيب‏.‏ ولو ان حجمها كان أقل أو أكثر مما هي عليه الآن، لاستحالت الحياة فوقها‏.‏ وهي تدور بسرعة مقدراها ألف ميل في الساعة، وفيها جاذبية غير عادية، وهي تشد كل شيء اليها بفعل تلك الجاذبية‏.‏

وتُكلم الأرض دورة واحدة حول محورها كل أربع وعشرين ساعة، ولو فرضنا ان انخفضت هذه السرعة الى مائتي ميل في الساعة، لطالت أوقات لَيلِنا ونهارنا عشرات المرات، عما هي عليه الآن‏.‏ ويترتب على ذلك ان تحرق الشمس كل شيء فوق الارض، فإن بقي بعد ذلك شيء قضت عليه البرودة الشديدة في الليل‏.‏

ثم ان هذه الارض دائرة في الفضاء حول الشمس، وعلى زواية محددة، الأمر الذي تنشأ عنه فصول السنة، وصلاحية البقاع للزراعة والسكن، فلو لم تَسِر الأرض على هذه الزاوية لغمر الظلام القطبين طوال السنة، ولسار بخار البحار شمالاً وجنوبا، ولما بقي على الأرض غير جبال الثلج وفيافي الصحراوات‏.‏‏.‏ اذ ذاك تغدو الحياة على هذه الأرض مستحيلة تماماً‏.‏

ولو ك انت قشرة الارض أكثر سُمكاً مما هي الآن بمقدار عشرة أقدام لما وجد الأكسجين، لأن القشرة الارضية ستمتص الاوكسجين في تلك الحال‏.‏ وبدونه تستحيل الحياة الحيوانية‏.‏

وكذلك لو كانت البحار أعمق مما هي الآن بضعة أقدام، لا نجذبَ إليها غاز ثاني اوكسيد الكربون، والاوكسجين، ولاستحال وجود النباتات عند ذلك‏.‏

ويحيط بالأرض غلاف جوي خليط من الغازات التي تحتفظ بخاصائصها، وأقربُ طبقات الارض الى سحطها تسمى تروبوسفير، وهي تمتد الى ارتفاع ثمانية كليو مترات عند القطبين والى 11 كم في خطوط العرض الوسطى، و12 كم عند خط الاستواء‏.‏ وفي هذه الطبقة يحدث خلط مستمر للهواء نتيجة للتيارات الصاعدة والهابطة‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ وتتركب الغلاف الجوي من الأزوت والأوكسجين، والأرغون، وثاني أوكسيد الكربون، وكميات ضئيلة من غازات النيون والكريتون والهيليوم والأيدروجين والكسينون والأوزون، بالاضافة الى كميات متغيرة من بخار الماء والغبار‏.‏ ولكل هذه المواد نسب معينة محددة لا تزيد ولا تنقص‏.‏

ولو كان الغلاف الجوي للأرض ألطف مما عليه الآن، لاخترقت النيازك الغلاف الخارجي منه كل يوم، ولرأينا هذه النيازك مضيئة في الليل، ولقسطت على كل بقعة من الارض وأحرقتها‏.‏ فولا ان غلاف الارض الهوائي يقينا من هذه الشهب لأحرقتنا‏.‏ ذلك ان سرعتها أكبر من سرعة طلقة البندقية بتسعين مرة، كما ان حرارتها الشديدة كافية لإهلاك كل ما على سطح الأرض‏.‏

والآن‏.‏ ألا يدل على التوازن الدقيق العجيب جداً على قدرة الخالق وبديع صنعه‏!‏ الحق أنه لم يكن صدفة، ولا وُجد عفوا كما يقول المبطلون الجاهلون‏.‏

لكن، من يدرك ذلك‏؟‏ إنهم أولوا الألباب، فهم الذين ينظرون إليه ثم يستحضرون في نفوسهم عظمة الله وجلاله‏.‏ ومن ثم تجدهم لا يغفلون عنه تعالى في جميع أحوالهم‏:‏ قائمين، وقاعدين، وعلى جنوبهم‏.‏ وهم يتفكرون في خلق السماوات والارض، وما فيها من عجائب ثم يقولون‏:‏ ربنا ما خلقتَ كل هذا الكون العجيب عبثا، بل وِفق حكمة قدّرتَها، إنك أنت العزيز الحكيم‏.‏

وفي هذا تعليم للمؤمنين كيف يخاطبون ربهم عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه في بدائع خلقه، فوفّقنا يا ربُّ بعنايتك الى العمل الصالح حتى يكن ذلك وقاية لنا من عذاب النار‏.‏

ثم إنهم يضرعون الى ربهم قائلين‏:‏ يا ربنا وخالقنا، إن من يستحق النار باعماله السيئة سيلقاها، وبذلك تكون قد أخزيته وأظهرتَ فضيحته‏.‏ وليس للظالمين الذين استحقوا النار أنصار يحمونهم يوم القيامة من دخول النار‏.‏

ثم يتّجهون بقلوب خاشعة تطلب المغفرة الواسعمة، والوفاةَ مع الأبرار فيبتهلون‏:‏ يا ربنا، إننا سمعنا رسولك الكريم يدعو الى الإيمان بك، فأطعناه وآمنّا، فاغفر بنا ذنوبنا كبيرها وصغيرها، وكفّر عنا سيئاتنا واجعلنا في الآخرة من عبادك الأخيار‏.‏ أعطنا يا ربُّ ما وعدتنا على ألسنة رُسلك الكرام من حسن الجزاء في الدنيا كالنصر والتأييد، ومن النعيم في الآخرة‏.‏ لا تفضحنا يا ربّ ولا تهتك سترنا يوم القيامة، انك لاتخلِف ما وعد به جزاء الإيمان وصالح الأعمال‏.‏

ولقد استجاب لهم ربهم طلبهم بعد تلك المناجاة اللطيفة، والدعاء الخالص، فطمأنهم الى انه لا يُضيع ثواب عامل، ذكراً ك ان أم أنثى، فكلّهم سواء في الانسانية‏.‏

وفي هذه الآية نصٌّ على ان الذكر والأثنى متساويان عند الله ولا تفاضل بينهما الا بالأعمال‏.‏

بعد ذلك ينتقل البحث الى المهاجرين من مكّة، فالذين هاجروا يريدون وجه الله، أو أُخرجوا من ديارهم وناهلم الأذى في سبيل الله، وقاتلوا وتعرضوا للقتل قد كتب الله على نفسه ان سيمحو عنهم سيئاتهم، ويُدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏ والله وحده عنده الثواب الجميل‏.‏

قراءات‏:‏

قرأ حمزة والكسائي «وقتلوا واقاتلوا»، وقرأ ابن كثير وابن عامرم «وقتلوا» بتشديد التاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 198‏]‏

‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ‏(‏196‏)‏ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏197‏)‏ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ ‏(‏198‏)‏‏}‏

يغُرنَّك‏:‏ يخدعنَّك‏.‏ تقلب الذين كفروا‏:‏ تصرُّفهم في التجارة والمكاسب‏.‏ مأواهم‏:‏ مصيرهم ونُزُلهم‏.‏‏.‏ المهاد‏:‏ المكان الممهد‏.‏ النزل‏:‏ المنزل، أو ما يقدَّم للضيف من طعام وشراب‏.‏ الابرار‏:‏ جمع بارّ وبَرٍّ‏:‏ كل متصف بالخير ومتوسع فيه‏.‏

بعد تلك المناجاة الروحية وما فيها من ابتهالات ودعوات، وما تلاها من تبشير من الله تعالى للمؤمنين بالثواب العظيم، جاء التبصير للمؤمنين‏.‏ وكانوا في غاية الفقر، لا سيما المهاجرون، فيما كان مشركو قريش في رخاء وعيس لين‏.‏ لذا ذكر الله تعالى هنا ما يسلّي المسلمين ويصبّرهم على تلك الشدة، فبيَّن هنا أن رخاء المشركين متاع زائل، فلا ينبغي للعاقل ان يوازنه بالنعيم الخالد المقيم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ لا يغرَّنك يا محمد، انت والمؤمنين، ما ترى الذين كفروا يتقلّبون فيهن من النعيم، ذلك كلّه متاع قليل زائل ثم ينتهون الى جنهم‏.‏

وبعد أن بين حال الكافرين ومآل أمرهم، شرح عاقبة المؤمنين فقال‏:‏ أما الذين آمنوا بالله ورسوله واتقوا ربهم بفعل الطاعات وترك المنهّات فإن لهم جنات تجري من تحتها الأنار، مخلَّدين فيها، في نعيم من كرم الله وضيافته‏.‏ ولا شك ان ما عند الله من الكرامة أفضل على التحقيق مما يتقلب فيه الذين كفروا من المتاع القليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏199‏)‏‏}‏

لقد روي في سبب نزول هذه الآية عدة روايات‏:‏ النجاشي، أو جماعة من نجران، أو بعْض أفراد من الروم‏.‏ وهي على كال حال تعم كل كتابيٍّ آمن بالله ورسوله ولا عبرة بخصوص السبب‏.‏ والمعنى‏:‏ ان بعض اهل الكتاب يؤمنون بالله، وبما أُنزل على محمد، وما أنزل على الرسل من قبله، وانت تراهم يا محمد خاشعين لله مبتهلين اليه، لا يستبدلون بآيات الله وايمانهم الصحيح عَرَضاً من أعراض الدنيا مهما عظم‏.‏ فلهؤلاء القوم الجزاءُ الأوفى عند ربهم في دار الرضوان، والله لا يعجزه إحصاء اعمالهم ومحاسبتهم عليها، وهو قادر على كل شيء‏.‏

ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بوصية للمؤمنين اذا عملوا بها كانوا أهلاً لاستجابة الدعاء، وأحق بالنصر في الدنيا وحسن ثواب الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏200‏)‏‏}‏

يا أيها المؤمنون اصبروا على شدائد الدنيا وآلامها، وألجِموا شهواتم النفس وأطماعها، واصبروا على انحراف الناس ونقصهم وسوء أعمالهم، فالصبر شيء عظيم‏.‏ ولقد حث الله تعالى عليه في نيِّفٍ ومائة آية من القرآن الكريم، وما ذلك الا لعلو منزلته، وكونه من أكبر علائم النجاح في الدارين‏.‏

أما ‏{‏وَصَابِرُواْ‏}‏ فتعني تحمَّلوا الماكره التي تلحقكم من سواكم، وصابِروا الأعداء دون أن ينفذ صبركم على طول المجاهدة، وسيكون لكم النصر بإذن الله‏.‏

‏{‏وَرَابِطُواْ‏}‏ في سبيل الله، وأصلُ المرابطة الإقامة في الثغور على حدود الأعداء ومواقع الجهاد، اما الآن فقد بات معناها الجهاد في جميع ألوانه والاستعدادُ له بكل ما ولّده هذا العصر من وسائل الدفاع والاسلحة الحديثة‏.‏ ما ترك الجهادَ قومٌ الا وَقَرَنهم الله بالذل، فلننظر الى ما نحنن عليه الآن من فرقة ونزاع واختلاف بين زعمائنا وحكامنا، وما يصدر من بعضهم من تبجح وتصريحات، فهل نحن في مستوى قضيتنا‏؟‏‏!‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ والتقوى تصابح ل ما سبق، فهي الحارس اليقظ في الضمير تحرسه من أن يغفل، أو يضعف، أو يحيد عن الطريق القويم‏.‏ فالصبر والمصابرة والجهاد بدون تقوى الله لا قيمة لها ولا فائدة منها‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ في الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى ان يوفقنا لنكون من هؤلاء، فنفوز مع الفائزين برضاه في الدارين، وصدق الله العيظم‏.‏